ألمانيا- تضييق الخناق على حرية التعبير باسم القانون الجنائي.

المؤلف: د. مروان الغفوري11.05.2025
ألمانيا- تضييق الخناق على حرية التعبير باسم القانون الجنائي.

ينص القانون الأساسي الألماني، الصادر في عام 1949، في مادته الخامسة، على أن "لكل فرد الحق الكامل في التعبير عن آرائه ونشرها شفهيًا وكتابيًا وعن طريق الصور، كما يحق له الوصول إلى المعلومات من مصادر متاحة للجميع. حرية الصحافة ونقل الأخبار عبر الإذاعة والتلفزيون والأفلام مضمونة، ولا يجوز فرض أي نوع من الرقابة أو الحظر".

لكن الواقع في ألمانيا لم يرقَ أبدًا إلى مستوى هذه المُثُل العليا التي وضعها القانون الأساسي. ونتيجة لذلك، احتلت ألمانيا المرتبة 22 في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2023، وهو نفس مستوى ناميبيا. ووفقًا لهذا التصنيف، الذي تُصدره منظمة "مراسلون بلا حدود"، فإن ألمانيا تتخلف عن معظم دول أوروبا الشرقية في هذا المجال.

بمرور الوقت، نجحت الحكومة الألمانية في إعادة تشكيل، بل واختطاف، مجال التعبير من خلال القانون الجنائي الألماني. فالحرية التي منحها القانون الأساسي، أو "الدستور"، مقيدة الآن بمواد في القانون الجنائي، مثل المادة 130، التي تحظر أشكال التعبير التي "تحرض على الكراهية ضد مجموعة قومية أو عرقية أو مجموعة محددة على أساس أصلها العرقي، أو ضد قطاعات من السكان بسبب انتمائهم إلى إحدى هذه المجموعات".

من خلال تفسيراته الواسعة وتأويلاته، تمكن القانون الجنائي من إحكام قبضته على حرية التعبير. فالسلطات الألمانية، المثقلة بإرث الماضي والمحاصرة بالدستور، وجدت في القانون الجنائي عصا سحرية لم تتوقف عن استخدامها أو التلويح بها.

عند الحديث عن حدود حرية التعبير، غالبًا ما تُستحضر قصة جيرمار رودولف، وهو كيميائي ألماني تلقى تدريبه في معهد "ماكس بلانك" في شتوتغارت. نشر رودولف دراسات علمية تشكك في استخدام النازيين للغاز، وخاصة سيكلون-بي، كأداة للقتل في معسكرات الاعتقال.

في عام 1995، حُكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف، لكنه تمكن من الهرب إلى أمريكا. وفي عام 2005، وبعد عشر سنوات من الاختباء، عثرت عليه السلطات الأمريكية وأعادته إلى ألمانيا، حيث نال عقابه.

وفقًا لتفسيرات المادة 130 من القانون الجنائي الألماني، فإن التشكيك في الرواية اليهودية للتاريخ يُعتبر تحريضًا على الكراهية ضد جماعة عرقية. ويستند القانون في ذلك إلى تقديرات الجماعة نفسها حول ما إذا كان المنشور يمثل خطرًا على وجودها أو إهانة لكرامتها.

المثقفون الجواسيس

لا تتسامح ألمانيا مع أي مظاهر تعاطف مع فلسطين، وتتخذ موقفًا صارمًا تجاه الاحتفالات بيوم النكبة في شهر مايو من كل عام. وتستند التبريرات التي تقدمها السلطات إلى القانون الجنائي، وليس إلى الدستور، بحجة أنها مخولة بمنع أي شيء قد يحرض على الكراهية. أما حرية التعبير، التي يكفلها الدستور، فلا تشغل بال السلطات الألمانية، التي لم تتعود على هذا السلوك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بمرور الوقت، نجحت الإدارة الألمانية في إعادة تشكيل، بل واختطاف، مجال التعبير من خلال القانون الجنائي الألماني، فأصبحت حرية التعبير، التي أطلقها القانون الأساسي "الدستور"، في قبضة مواد القانون

في الجانب الشرقي من البلاد، أنشأ السوفيات جهاز الـ "ستازي"، وهو نظام رقابة شامل حول كل مواطن إلى مُخبر. وأصبح المثقفون جزءًا من نظام الدولة، بل عملوا كمخبرين ضد زملائهم وجواسيس ضد مؤسساتهم، كما كشفت وثائق جهاز الـ "ستازي" التي أتيحت بعد الوحدة الألمانية.

أما الجانب الغربي من البلاد، أو ألمانيا الأمريكية، فلم يكن وضعه أفضل فيما يتعلق بحرية التعبير. فقد بادر الجيش الأمريكي إلى إنشاء وحدة التحكم في المعلومات Information Control Division. ووضعت الوحدة تحت قيادة الجنرال روبرت ماكلور، الخبير في فنون الحرب النفسية. الرسالة التي كتبها ماكلور في صيف عام 1946 إلى صديقه تشارلز جاكسون، والذي كان أيضًا مستشاره في فنون الحرب النفسية، تقدم صورة مرعبة عن المشهد الثقافي الألماني آنذاك. كتب ماكلور: "نحن الآن نسيطر على 37 صحيفة، و 6 محطات إذاعية، و 314 مسرحًا، و 642 فيلمًا، و 101 مجلة، و 237 دار نشر للكتب، و 7384 من المطابع ومنافذ بيع الكتب. ونجري أيضًا حوالي 15 استطلاعًا للرأي العام شهريًا، ونصIssue ثلاث مجلات وصحيفة نوزع منها مليونًا ونصف المليون نسخة، وندير 20 مكتبة مركزية. إنه عمل ضخم".

عمل الأمريكيون على إخضاع المجال العام الألماني للرؤية الأمريكية، ومنعوا أي صوت ينتقد "الاحتلال" الأمريكي، وحددوا خريطة للتعبير بما يتناسب مع رؤية أمريكا للشكل الذي تريده لألمانيا.

استمر الوضع على هذا المنوال حتى سقوط جدار برلين. ثم حدثت الوحدة الألمانية بين جهازين: "وحدة التحكم في المعلومات" و "نظام ستازي". إنه إرث ثقيل للغاية، ولا يزال العديد من موظفي تلك الحقبة يعملون في مؤسسات الدولة التي لم تجد طريقها حتى الآن.

قبل الحرب، حصر النازيون "المواد الضارة"، وهي الكتب التي تتعارض مع رؤيتهم للتاريخ والعالم، سواء كانت أعمالًا معرفية أو إبداعية. وشملت قائمة المواد الضارة مؤلفات لمبدعين يهود وشيوعيين ومثقفين ألمان رفضوا الانصياع للنازية. وأُحرقت آلاف العناوين في مشاهد مروعة. الشيء نفسه فعلته أمريكا بعد الحرب، حيث جمعت وحدة التحكم في المعلومات ما يزيد عن 30 ألف عنوان من "المواد الضارة"، وأُحرق الكثير منها في مشاهد احتفالية مماثلة، كما أُرسلت مواد كتابية وفنية عديدة إلى أمريكا.

المواد الضارة، اللازمة القديمة التي تحاصر حرية التعبير، تستخدمها السلطات الألمانية المعاصرة عندما يتعلق الأمر بالموقف من القضية الفلسطينية. فأي نقد يوجه لإسرائيل يُوضع في خانة المواد الضارة التي يجب أن يتصدى لها القانون الجنائي. وتقدم ألمانيا الحديثة على أفعالها ببسالة، ولا تخجل من رؤيتها وهي تبطش بالمتظاهرين في وضح النهار.

تعريف معاداة السامية.. لزوم ما لا يلزم

في عام 2016، اعتمدت رومانيا وألمانيا تعريفًا لمعاداة السامية وضعته منظمة IHRA، أو التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست. ووجد هذا التعريف طريقه إلى الاتحاد الأوروبي من خلال الدولتين، ثم أصبح تعريفًا أوروبيًا "غير ملزم".

لكن كلمة "غير ملزم" التي تتردد عند الإشارة إلى التعريف لا تعكس الحقيقة كاملة. ففي عام 2019، هدد وزير التعليم العالي البريطاني جامعات بلاده باتخاذ إجراءات عقابية إذا لم يتم إدراج التعريف ضمن النظام التعليمي والبحثي للجامعات قبل نهاية العام.

يمتد التعريف في نسخته النهائية على 46 صفحة تشمل الثقافة والأكاديميا والآداب. ويمكن لأمور تافهة أو خطيرة أن تصنف كمعاداة للسامية، مثل القول بأن اليهود يمتلكون المال ويؤثرون على الأسواق. وأشار التعريف في مقدمته إلى أن النقد الموجه لدولة إسرائيل لا يعتبر معاداة للسامية إذا كان مماثلاً لما يقال عن الدول الأخرى.

لكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن ألمانيا تخرج عن مسارها المعتاد، بل وتتعارض مع جوهر دستورها. فقد أجرت تعديلًا على التعريف لتعد نسختها الخاصة الأكثر تشدداً. وأضافت مادة تنص على أنه بما أن الدولة الإسرائيلية هي المشروع اليهودي الأكبر، فإن المساس بها أو إهانتها أو التحريض عليها يدخل ضمن معاداة السامية.

احتشدت ألمانيا الرسمية للدفاع عن إسرائيل، وخاضت معركة انتحارية مع العالم بأسره، وهذا ليس من باب المبالغة. فليست هناك دولة في العالم، باستثناء ألمانيا، تعتبر وجود إسرائيل مبرراً لوجودها "Staatsräson".

عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، تخرج ألمانيا عن مسارها المعتاد، وتتعارض مع جوهر دستورها. فقد أجرت تعديلًا على تعريف معاداة السامية لتعد نسختها الخاصة الأكثر تشدداً، فأضافت مادة تنص على أنه بما أن الدولة الإسرائيلية هي المشروع اليهودي الأكبر، فإن المساس بها أو إهانتها أو التحريض عليها يدخل ضمن معاداة السامية

في مطلع هذا الشهر، ألغت جامعة كولن الدعوة لتي كانت سبق أن وجهتها إلى نانسي فريزر، الفيلسوفة الأمريكية المرموقة. وكان من المقرر أن تُمنح فريزر أستاذية "ألبرتوس ماغنوس"، وهي درجة شرفية تمنحها الجامعة كل عام لشخصية دولية بارزة في مجال الفلسفة والعلوم. وانزلق الحقل الأكاديمي الألماني إلى وضعية منظومة استخباراتية تعمل في خدمة رواية النظام الحاكم. وعلمت جامعة كولن أن الضيفة الكبيرة كانت قد وقعت على عريضة بعنوان: "الفلسفة من أجل فلسطين"، وهو نداء رفيع أطلق في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ووصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية قيد التنفيذ Unfolding Genocide. وحظي البيان بتوقيع 407 شخصيات ناشطة في مجال الفلسفة من الأمريكتين وأوروبا. ولم تحل يهودية البروفيسورة نانسي فريزر دون اتهامها في ألمانيا بمعاداة السامية و"التشكيك في حق إسرائيل في الوجود".

كل بضعة أيام، تخوض ألمانيا بمفردها معركة ثقافية جديدة، ومن الملاحظ أنها رغم خسارتها كل تلك المعارك، فإنها ماضية فيما تفعله. وأثار موقف جامعة كولن من فريزر استياء أكاديميًا داخل ألمانيا، وعبر عنه 22 عالمًا في حقل الفلسفة من خلال بيان وصفوا فيه ما جرى بأنه "محاولة أخرى" لتقييد النقاش العام حول إسرائيل.

إن استخدام جملة "محاولة أخرى" من قبل ذلك الحشد المرموق من الأكاديميين يشير إلى مدى الاستياء والتذمر الذي وصلت إليه النخب الألمانية إزاء ما يجري في بلادها.

ألمانيا وفلسطين

تعمل الإدارات الألمانية المتعاقبة على تقليص مظاهر التعبير المتعلقة بالقضية الفلسطينية، إلا أن الإدارة الحالية تجاوزت كل سابقاتها ووضعت سمعة البلاد، كدولة ليبرالية يمجد دستورها حرية التعبير، على المحك.

وما حدث لمعرض الفن الحديث المعروف باسم Documenta هو مثال آخر يوضح الضرر الذي لحق بالقطاع الثقافي الألماني بسبب إصرار النظام على فرض رؤيته للصراع في الشرق الأوسط على جميع قطاعات البلاد. ويعتبر Documenta معرض الفن "الأكثر أناقة في العالم وربما إلى الأبد"، وفقًا لـ "نيويورك تايمز" في سبتمبر/كانون الأول 2022. وDocumenta هو حدث ثقافي دولي رفيع المستوى يقام مرة كل خمس سنوات في مدينة كاسل، ومن المتوقع أن تقام دورته السادسة عشرة في عام 2027.

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عندما بلغ القمع الألماني لأي تعاطف مع فلسطين ذروته، استقالت اللجنة التحضيرية للدورة المقبلة للمؤتمر. وبدأ الأمر بفضيحة من العيار الثقيل. فالأنظمة الفاسدة تصنع بيئة ثقافية مماثلة لها، وهكذا اكتشفت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن الشاعر والناقد الهندي رانجيت هوسكوت، وهو عضو في اللجنة التحضيرية، معاد للسامية.

تعود القصة إلى صيف 2019، عندما وقع هوسكوت مع مثقفين آخرين ضمن "المنتدى الثقافي الهندي" على عريضة احتجاج ضد حدث ثقافي أقامته القنصلية الإسرائيلية في مومباي تحت عنوان: "فكرة الأمة لدى القادة". وفي ذلك الحدث، سعى المشاركون إلى مد جسور التواصل بين هرتزل، مؤسس الصهيونية، وسافاركار، الأب المؤسس لحركة "هندوتفا" الهندوسية المتطرفة. وكان سافاركار - كما أوضح هوسكوت في تصريحاته لوسائل الإعلام - معجبًا بهتلر، وكثيرًا ما رأى في سياسته تجاه الأقليات نموذجًا يصلح للتطبيق في الهند.

على إثر هجوم ألماني متعدد الأوجه، قدم هوسكوت استقالته من لجنة Documenta. وعلى أثره، قدم جميع أعضاء اللجنة الآخرين استقالاتهم، وكانوا من الدول التالية: البرازيل، وإسرائيل، وفرنسا، والنمسا، والصين. وتتحرك الآلة الألمانية بعشوائية، وتفرض عقابًا على كل ما يثير غضب إسرائيل، حتى لو كان ذلك يكشف عن الطبيعة النازية لشخص مثل سافاركار.

ورث الأمريكيون عن النازيين لعبة "المواد الضارة"، وهي اللعبة التي تعلمتها المؤسسات الألمانية تحت إشراف الجنرال ماكلور، الذي توفي عام 1957، وخلفائه. وما أقره القانون الأساسي لعام 1949، صادرته تفسيرات القانون الجنائي. وفي أغسطس/آب الماضي، نشرت مجلة "جاكوبين" - وهي مجلة يسارية أمريكية تصدر من نيويورك - تقريرًا مطولًا بعنوان: "تؤمن ألمانيا بحرية التعبير ولكن ليس للفلسطينيين".

في ذكرى النكبة في مايو/أيار من العام الماضي، رفضت السلطات الألمانية، كعادتها، السماح بأي تجمع فلسطيني. وعلى سبيل الاحتجاج، وقفت مجموعة من الشباب بالقرب من ميدان هيرمان بلاتس في برلين لالتقاط صورة جماعية وهم يرفعون قبضاتهم عاليًا. ولم يكونوا يحملون أي لافتات. وانضم إليهم عدد من المارة، لكن الشرطة، التي كانت متمركزة بالقرب بحثًا عن أي مظهر فلسطيني، اندفعت واعتقلت 170 شخصًا.

وكان بعض المعتقلين من المارة. وتحدث بعضهم إلى مجلة "جاكوبين" عن تجربتهم مع القضاء الذي أحيلوا إليه. ووفقًا لروايتهم، دفع كل منهم غرامة قدرها 400 يورو، ولم يكن القضاة مستعدين للاستماع إلى دفوعهم أو أخذ دفاعهم على محمل الجد. فبالنسبة للقضاء، فإن الجرم ثابت ولا داعي لمزيد من النقاش.

هذه معضلة ألمانية عويصة، أن ترعى السلطات تفسيرًا للقانون الجنائي يقضي على المكاسب التي دونها الدستور، ثم تستولي على جميع مؤسسات البلاد لصالحها. وأمام هذه الظاهرة الصارخة، التي وضعت ادعاءات العالم الليبرالي عن نفسه على المحك، تداعى مثقفون وفنانون على ضفتي الأطلسي لبناء وثيقة عملية تحت عنوان: "قاطعوا ألمانيا ثقافيًا". وتجاوز عدد الموقعين على المشروع ألفًا وخمسمائة شخص، بينهم روائيون حاصلون على جائزة نوبل.

ويمكن ملاحظة هذا الصراع الحضاري مع الإدارة الألمانية على منصات مهرجان برلين السينمائي ومهرجان برلين الغنائي CTM، حيث شهد المهرجانان مقاطعات واحتجاجات.

ووجدت ألمانيا نفسها مقيدة تدافع عن مواقفها بعبارات لغوية جوفاء خالية من المعنى. وهناك انطباع متزايد لدى المثقفين خارج ألمانيا بأنها لم تعد البلد الذي يتسع لحرية التعبير، وأن "بلاد الشعراء والفلاسفة" أصبحت عاجزة عن تصحيح مسار الأمور ومعالجة ماضيها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة